فصل: سئل عن ‏تصرفات السكران‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فصل

وأما الطلاق في الحيض، فمنشأ النزاع في وقوعه‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر بن الخطاب لما أخبره أن عبد اللّه بن عمر طلق امرأته وهي حائض‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها، حتى تحيض، ثم تطهر، ثم تحيض ثم تطهر‏)‏‏.‏ فمن العلماء من فهم من قوله‏:‏ ‏(‏فليراجعها‏)‏، أنها رجعة المطلقة‏.‏ وبنوا على هذا أن المطلقة في الحيض يؤمر برجعتها مع وقوع الطلاق‏.‏ وهل هو أمر استحباب، أو أمر إيجاب‏؟‏ على قولين‏:‏ هما روايتان عن أحمد‏.‏ والاستحباب مذهب أبي حنيفة والشافعي‏.‏ والوجوب مذهب مالك‏.‏ وهل يطلقها في الطهر الأول الذي يلي حيضة الطلاق، أولا يطلقها إلا في طهر من حيضة ثانية‏؟‏ على قولين أيضا، هما روايتان عن أحمد، ووجهان في قول أبي حنيفة‏.‏ وهل عليه أن يطأها قبل الطلاق الثاني‏؟‏ جمهورهم لا يوجبه، ومنهم من يوجبه، وهو وجه في مذهب أحمد، وهو قوي على قياس قول من يوقع الطلاق، لكنه ضعيف في الدليل‏.‏

/وتنازعوا في علة منع طلاق الحائض‏:‏ هل هو تطويل العدة، كما يقوله أصحاب مالك والشافعي، وأكثر أصحاب أحمد‏؟‏ أو لكونه حال الزهد في وطئها، فلا تطلق إلا في حال رغبة في الوطء؛ لكون الطلاق ممنوعا لا يباح إلا لحاجة، كما يقول أصحاب أبي حنيفة وأبو الخطاب من أصحاب أحمد‏؟‏ أو هو تعبد لا يعقل معناه، كما يقوله بعض المالكية‏؟‏ على ثلاثة أقوال‏.‏

ومن العلماء من قال‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، لا يستلزم وقوع الطلاق بل لما طلقها طلاقا محرما حصل منه إعراض عنها ومجانبة لها؛ لظنه وقوع الطلاق، فأمره أن يردها إلى ما كانت، كما قال في الحديث الصحيح لمن باع صاعا بصاعين‏:‏ ‏(‏هذا هو الربا، فرده‏)‏‏.‏ وفي الصحيح عن عمران بن حصين أن رجلاً أعتق ستة مملوكين، فجزأهم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، ورد أربعة للرق‏.‏ وفي السنن عن ابن عباس‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بالنكاح الأول، فهذا رد لها‏.‏ وأمر علي بن أبي طالب أن يرد الغلام الذي باعه دون أخيه‏.‏ وأمر بشيراً أن يرد الغلام الذي وهبه لابنه‏.‏ ونظائر هذا كثيرة‏.‏

ولفظ المراجعة تدل على العود إلى الحال الأول‏.‏ ثم قد يكون ذلك بعقد جديد، كما في قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عليهمَا أَن يَتَرَاجَعَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 230‏]‏، وقد يكون برجوع بدن كل منهما إلى صاحبه وإن لم يحصل هناك طلاق، كما إذا /أخرج الزوجة أو الأمة من داره فقيل له‏:‏ راجعها؛ فأرجعها كما في حديث على‏:‏ حين راجع الأمر بالمعروف‏.‏ وفي كتاب عمر لأبي موسى وأن تراجع الحق فإن الحق قديم‏.‏

واستعمال لفظ المراجعة يقتضي المفاعلة‏.‏ والرجعة من الطلاق يستقل بها الزوج بمجرد كلامه، فلا يكاد يستعمل فيها لفظ المراجعة، بخلاف ما إذا رد بدن المرأة إليه فرجعت باختيارها، فإنهما قد تراجعا، كما يتراجعان بالعقد باختيارهما بعد أن تنكح زوجا غيره‏.‏ وألفاظ الرجعة من الطلاق هي الرد، والإمساك‏.‏ وتستعمل في استدامة النكاح، كقوله تعالى ‏:‏ ‏{‏وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عليه وَأَنْعَمْتَ عليه أَمْسِكْ عليكَ زَوْجَكَ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 37‏]‏، ولم يكن هناك طلاق، وقال تعالى ‏:‏ ‏{‏الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 229‏]‏، والمراد به الرجعة بعد الطلاق‏.‏ والرجعة يستقل بها الزوج، ويؤمر فيها بالإشهاد‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر ابن عمر بالإشهاد، وقال‏:‏ ‏(‏مره فليراجعها‏)‏، ولم يقل‏:‏ ليرتجعها‏.‏

وأيضا، فلو كان الطلاق قد وقع، كان ارتجاعها ليطلقها في الطهر الأول أو الثاني زيادة وضرراً عليها، وزيادة في الطلاق المكروه، فليس في ذلك مصلحة لا له ولا لها، بل فيه إن كان الطلاق قد وقع بارتجاعه ليطلق مرة ثانية زيادة ضرر، وهو لم يمنعه عن الطلاق، بل أباحه له في استقبال /الطهر مع كونه مريداً له، فعلم أنه إنما أمره أن يمسكها، وأن يؤخر الطلاق إلى الوقت الذي يباح فيه، كما يؤمر من فعل شيء قبل وقته أن يرد ما فعل ويفعله إن شاء في وقته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد‏)‏، والطلاق المحرم ليس عليه أمر اللّه ورسوله فهو مردود‏.‏ وأمره بتأخير الطلاق إلى الطهر الثاني ليتمكن من الوطء في الطهر الأول، فإنه لو طلقها فيه لم يجز أن يطلقها إلا قبل الوطء، فلم يكن في أمره بإمساكها إليه إلا بزيادة ضرر عليها إذا طلقها في الطهر الأول‏.‏

وأيضا، فإن ذلك معاقبة له على أن يعمل ما أحله اللّه، فعوقب بنقيض قصده، وبسط الكلام في هذه المسألة، واستيفاء كلام الطائفتين له موضع آخر‏.‏ وإنما المقصود هنا التنبية على الأقوال ومأخذها‏.‏ لا ريب أن الأصل بقاء النكاح ولا يقوم دليل شرعي على زواله بالطلاق المحرم، بل النصوص والأصول تقتضي خلاف ذلك، واللّه أعلم‏.‏

/ باب طلاق السكران ونحوه

 سئل شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ عن السكران غائب العقل‏:‏ هل يحنث إذا حلف بالطلاق أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه رب العالمين، هذه المسألة فيها قولان للعلماء‏.‏ أصحهما أنه لا يقع طلاقه، فلا تنعقد يمين السكران، ولا يقع به طلاق إذا طلق وهذا ثابت عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان، ولم يثبت عن الصحابة خلافه فيما أعلم، وهو قول كثير من السلف والخلف ـ كعمر بن عبد العزيز وغيره وهو إحدى الروايتين عن أحمد ـ اختارها طائفة من أصحابه، وهو القول القديم للشافعي، واختاره طائفة من أصحابه، وهو قول طائفة من أصحاب أبي حنيفة ـ كالطحاوي ـ وهو مذهب غير هؤلاء‏.‏

وهذا القول هو الصواب، فإنه قد ثبت في الصحيح عن ماعز بن مالك لما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقر أنه زني، أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنكهوه، ليعلموا هل هو سكران، أم لا‏؟‏ فإن كان سكران لم يصح إقراره، وإذا لم يصح إقراره علم أن أقواله باطلة، كأقوال المجنون؛ ولأن /السكران وإن كان عاصيا في الشرب فهو لا يعلم ما يقول، وإذا لم يعلم ما يقول لم يكن له قصد صحيح، وإنما الأعمال بالنيات‏.‏ وصار هذا كما لو تناول شيئا محرما جعله مجنونًا؛ فإن جنونه وإن حصل بمعصية فلا يصح طلاقه ولا غير ذلك من أقواله‏.‏

ومن تأمل أصول الشريعة ومقاصدها تبين له أن هذا القول هو الصواب وأن إيقاع الطلاق بالسكران قول ليس له حجة صحيحة يعتمد عليها؛ ولهذا كان كثير من محققي مذهب مالك والشافعي ـ كأبي الوليد الباجي، وأبي المعالى الجويني ـ يجعلون الشرائع في النشوان، فأما الذي علم أنه لا يدري ما يقول فلا يقع به طلاق بلا ريب‏.‏ والصحيح أنه لا يقع الطلاق إلا ممن يعلم ما يقول، كما أنه لا تصح صلاته في هذه الحالة‏.‏ ومن لا تصح صلاته لا يقع طلاقه، وقد قال‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن ‏[‏تصرفات السكران‏]‏

فأجاب‏:‏

قد تنازع الناس فيه قديمًا وحديثًا، وفيه النزاع في مذهب أحمد وغيره وكثير من أجوبة أحمد فيه كان التوقف‏.‏ والأقوال الواقعة في مذهب أحمد وغيره‏:‏ القول بصحة تصرفاته مطلقا ـ أقواله، وأفعاله ـ والقول بفسادها مطلقا، والفرق بين أقواله وأفعاله، والفرق بين الحدود وغيرها، والفرق /بين ما له وما عليه، وما ينفرد به وما لا ينفرد به، وهذا التنازع موجود في مذهب أحمد وغيره‏.‏

ثم تنازعوا فيمن زال عقله بغير سكر كالبنج‏:‏ هل يلحق بالسكران، أو المجنون‏؟‏ على قولين في مذهب أحمد وغيره، وكل من أصحاب أحمد يتمسك في ذلك بشيء من كلامه، وليس عنه رواية ووجها، بل روايتان متأولتان‏.‏

وتنازعوا فيمن أكره على شرب الخمر‏:‏ هل يأثم بذلك‏؟‏ على وجهين‏:‏

ومن أصحاب أحمد ـ كالخلال ـ من ينصر أنه لا يقع عليه طلاقه‏.‏ ومنهم ـ كالقاضي ـ من ينصر وقوع طلاقه، والذين أوقعوا طلاقه لهم ثلاثة مآخذ‏:‏

أحدها‏:‏ أن ذلك عقوبة له‏.‏ وصاحب هذا قد يفرق بين الحدود وغيرها، وهذا ضعيف؛ فإن الشريعة لم تعاقب أحداً بهذا الجنس من إيقاع الطلاق أو عدم ايقاعه؛ ولأن في هذا من الضرر على زوجته البريئة وغيرها ما لا يجوز، فإنه لا يجوز أن يعاقب الشخص بذنب غيره؛ ولأن السكران عقوبته ما جاءت به الشريعة من الجلد ونحوه، فعقوبته بغير ذلك تغيير لحدود الشريعة؛ ولأن الصحابة إنما عاقبته بما للسكر مظنته، وهو الهذيان والافتراء /في القول‏:‏ على أنه إذا سكر هذي، وإذا هذي افتري، وحد المفتري ثمانون، فبين أن إقدامه على السكر الذي هو مظنة الافتراء يلحقه بالمقدم على الافتراء؛ إقامة لمظنة الحكمة مقام الحقيقة؛ لأن الحكمة هنا خفية مستترة؛ لأنه قد لا يعلم افتراؤه، ولا متى يفتري، ولا على من يفتري، كما أن المضطجع يحدث ولا يدري هل هو أحدث أم لا، فقام النوم مقام الحدث‏.‏ فهذا فقه معروف، فلو كانت تصرفاته من هذا الجنس، لكان ينبغي أن تطلق امرأته سواء طلق أو لم يطلق، كما يحد حد المفتري سواء افتري أو لم يفتر، وهذا لا يقوله أحد‏.‏

المأخذ الثاني‏:‏ أنه لا يعلم زوال عقله إلا بقوله، وهو فاسق بشربه، فلا يقبل قوله في عدم العقل والسكر‏.‏ وحقيقة هذا القول أنه لا يقع الطلاق في الباطن، ولكن في الظاهر لا يقبل دعوي المسقط‏.‏ ومن قال بهذا قد يفرق بين ما ينفرد به‏.‏

المأخذ الثالث‏:‏ وهو مأخذ الأئمة منصوصاً عنهم ـ الشافعي، وأحمد ـ أن حكم التكليف جار عليه، و ليس كالمجنون المرفوع عنه القلم، ولا النائم، وذلك أن القلم مرفوع عن المجنون، والسكران معاقب، كما ذكره الصحابة‏.‏ وليس مأخذ أجود من هذا‏.‏ وكذلك قال أحمد‏:‏ ما قيل فيه أحسن من هذا‏.‏ وهذا ضعيف ـ أيضاً ـ فإنه إن أريد أنه وقت السكر يؤمر وينهي، فهذا باطل؛ فإن من /لا عقل له ولا يفهم الخطاب لم يدر بشرع ولا غيره على أنه يؤمر وينهي، بل أدلة الشرع والعقل تنفي أن يخاطب مثل هذا‏.‏ وإن أريد أنه قد يؤاخذ بما يفعله في سكره، فهذا صحيح في الجملة، لكن هذا لأنه خوطب في صحوه بألا يشرب الخمر الذي يقتضي تلك الجنايات، فإذا فعل المنهي عنه لم يكن معذورا فيما فعله من المحرم، كما قلت في سكر الأحوال الباطنة إذا كان سبب السكر محذورا لم يكن السكران معذورا‏.‏ هذا الذي قلته قد يقتضي أنه في الحدود كالصاحي وهذا قريب‏.‏ وأنا إنما تكلمت على تصرفاته ـ صحتها، وفسادها ـ وأما قوله تعالى ‏:‏ ‏{‏لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 43‏]‏، فهو نهي لهم أن يسكروا سكرا يفوتون به الصلاة، أو نهي لهم عن الشرب قريب الصلاة، أو نهي لمـن يدب فـيه أوائل النشوة‏.‏ وأما في حال السكر فلا يخاطب بحال‏.‏

والدليل على أنه لا تصح تصرفاته وجوه‏:‏

أحدها‏:‏ حديث جابر بن سمرة الذي في صحيح مسلم لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم باستكناه ماعز ابن مالك‏.‏

الثاني‏:‏ أن عبادته كالصلاة لا تصح بالنص والإجماع؛ فإن اللّه نهي عن قرب الصلاة مع السكر حتى يعلم ما يقوله، واتفق الناس على هذا، بخلاف الشارب غير السكران فإن عبادته تصح بشروطها، ومعلوم أن صلاته إنما لم تصح؛لأنه لم يعلم ما يقول، كما دل عليه القرآن، فنقول‏:‏ كل من بطلت /عبادته لعدم عقله، فبطلان عقوده أولى وأحري، كالنائم، والمجنون، ونحوهما فإنه قد تصح عبادات من لا يصح تصرفه؛ لنقص عقله - كالصبي، والمحجور عليه لسفه‏.‏

الثالث‏:‏ أن جميع الأقوال والعقود مشروطة بوجود التمييز والعقل‏.‏ فمن لا تمييز له ولا عقل ليس لكلامه في الشرع اعتبار أصلا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد، ألا وهي القلب‏)‏‏.‏ فإذا كان القلب قد زال عقله الذي به يتكلم ويتصرف، فكيف يجوز أن يجعل له أمر ونهي، أو إثبات ملك أو إزالته، وهذا معلوم بالعقل، مع تقرير الشارع له‏.‏

والرابع‏:‏ أن العقود وغيرها من التصرفات مشروطة بالقصود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنما الأعمال بالنيات‏)‏ وقد قررت هذه القاعدة في كتاب بيان الدليل‏.‏ على بطلان التحليل، وقررت أن كل لفظ بغير قصد من المتكلم؛ لسهو، وسبق لسان، وعدم عقل، فإنه لا يترتب عليه حكم‏.‏ وأما إذا قصد اللفظ ولم يقصد معناه ـ كالهازل، فهذا فيه تفصيل‏.‏ والمراد هنا بالقصد‏:‏ القصد العقلي الذي يختص بالعقل‏.‏ فأما القصد الحيواني الذي يكون لكل حيوان، فهذا لابد منه في وجود الأمور الاختيارية من الألفاظ والأفعال، وهذا وحده غير كاف في صحة العقود والأقوال؛ فإن المجنون والصبي وغيرهما لهما /هذا القصد، كما هو للبهائم، ومع هذا فأصواتهم وألفاظهم باطلة مع عدم التمييز، لكن الصبي المميز والمجنون الذي يميز أحيانا يعتبر قوله حين التمييز‏.‏

الخامس‏:‏ أن هذا من باب خطاب الوضع والإخبار، لا من باب خطاب التكليف؛ وذلك أن كون السكران معاقبا أو غير معاقب ليس له تعلق بصحة عقوده وفسادها، فإن العقود ليست من باب العبادات التي يثاب عليها، ولا الجنايات التي يعاقب عليها، بل هي من التصرفات التي يشترك فيها البر والفاجر والمؤمن والكافر، وهي من لوازم وجود الخلق؛ فإن العهود والوفاء بها أمر لا تتم مصلحة الآدميين إلا بها، لاحتياج بعض الناس إلى بعض في جلب المنافع ودفع المضار؛ وإنما تصدر عن العقل‏.‏ فمن لم يكن له عقل ولا تمييز لم يكن قد عاهد، ولا حلف، ولا باع، ولا نكح، ولا طلق، ولا أعتق‏.‏

يوضح ذلك أنه معلوم أن قبل تحريم الخمر كان كلام السكران باطلا بالاتفاق؛ ولهذا لما تكلم حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ في سكره قبل التحريم بقوله‏:‏ هل أنتم إلا عبيد لأبي، لم يكن مؤاخذاً عليه‏.‏ وكذلك لما خلط المخلط من المهاجرين الأولين في سورة ‏{‏قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ‏}‏ ‏[‏الكافرون‏:‏ 1‏]‏، قبل النهي لم يعتب عليه‏.‏ وكذلك الكفار لو شربوا الخمر وعاهدوا وشرطوا لم يلتفت إلى ذلك منهم بالاتفاق، ومن سكر سكراً لا يعاقب عليه مثل أن يشرب ما لا يعلم أنه يسكره ونحو ذلك‏.‏ فأما من سكر بشرب محرم فلا ريب أنه يأثم /بذلك، ويستحق من عقوبة الدنيا والآخرة ما جاء به أمر اللّه تعالى ‏.‏ فهذا الفرق ثابت بينه وبين من سكر سكرا يعذر فيه، فأما كون عهده الذي يعاهد به الآدميين منعقدا يترتب عليه أثره ويحصل به مقصوده، فهذا لا فرق فيه بين سكر المعذور وغير المعذور؛ لأن هذا إنما كان الموجب لصحته أن صاحبه فعله وهو عاقل مميز، لا أنه بر وفاجر‏.‏ والشرع لم يجعل السكران بمنزلة الصاحي أصلا‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل اختصم مع زوجته خصومة شديدة، بحيث تغير عقله، فقال لزوجته‏:‏ أنت طالق ثلاثا‏:‏ فهل يجب بذلك أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

إذا بلغ الأمر إلى ألا يعقل ما يقول ـ كالمجنون ـ لم يقع به شيء‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل غضب، فقال‏:‏ طالق، ولم يذكر زوجته واسمها‏.‏

فأجاب‏:‏

إن لم يقصد بذلك تطليقها لم يقع بهذا اللفظ طلاق‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل أكره على الطلاق‏.‏

فأجاب‏:‏

إذا أكره بغير حق على الطلاق لم يقع به عند جماهير العلماء ـ كمالك‏.‏ والشافعي، وأحمد، وغيرهم ـ وهو المأثور عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ـ كعمر بن الخطاب، وغيره ـ وإذا كان حين الطلاق قد أحاط به أقوام يعرفون بأنهم يعادونه، أو يضربونه، ولا يمكنه إذ ذاك أن يدفعهم عن نفسه، وادعي أنهم أكرهوه على الطلاق، قبل قوله‏.‏ فإن كان الشهود بالطلاق يشهدون بذلك، وادعي الإكراه، قبل قوله، وفي تحليفه نزاع‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل مسك وضرب، وسجنوه وغصبوه على طلاق زوجته، فطلقها طلقة واحدة، وراحت وهي حاملة منه‏.‏

/فأجاب‏:‏

الحمد اللّه، هذا الطلاق لا يقع‏.‏ وأما نكاحها وهي حامل من الزوج الأول، فهو نكاح باطل بإجماع المسلمين، ولو كان الطلاق قد وقع، فكيف إذا لم يكن قد وقع‏؟‏ ‏!‏ ويعزر من أكرهه على الطلاق، ومن تولي هذا النكاح المحرم الباطل‏.‏ ويجب التفريق بينهما حتى تقضي العدة من الأول بالوضع‏.‏ والعدة من الثاني فيها خلاف‏.‏ إن كان يعلم أن النكاح محرم، فالصيحح أنه لابد من ذلك‏.‏ وأما إن كان يعتقد صحة النكاح، فلابد أن تعتد من وطء الثاني‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل قال‏:‏ أنا ما أريدك، قومي روحي إلى أهلك، أنا أبأ أطلقك ونوي بهذا اللفظ الطلاق‏:‏ فهل يشرع أن يراجعها ويتزوجها بصداق ثان‏؟‏ أفتونا‏.‏

فأجاب‏:‏

الوعد بالطلاق لا يقع ولو كثرت ألفاظه، ولا يجب الوفاء بهذا الوعد، ولا يستحب‏.‏ وأما إذا أوقع بها الطلاق قبل أن يقول‏:‏ اذهبي إلى بيت أمك، وأراد يذكر أنه يطلقها، لا أنه سيطلقها، فهذا يقع به طلقة واحدة إذا لم ينو أكثر، وله أن يراجعها في العدة بلا رضاها، وبلا ولي، ولا مهر واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل متزوج وله أولاد، ووالدته تكره الزوجة، وتشير عليه بطلاقها‏:‏ هل يجوز له طلاقها‏؟‏

فأجاب‏:‏

لا يحل له أن يطلقها لقول أمه، بل عليه أن يبر أمه، وليس تطليق امرأته من برها‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن امرأة وزوجها متفقين، وأمها تريد الفرقة، فلم تطاوعها البنت‏:‏ فهل عليها إثم في دعاء أمها عليها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمـد لله، إذا تزوجت لم يجـب عليها أن تطيـع أباهـا ولا أمها في فـراق زوجها، ولا في زيـارتهم، ولا يجوز في نحـو ذلك، بل طاعـة زوجها عليها إذا لم يأمـرهـا بمعصية اللّه أحــق مـن طاعــة أبـويها ‏(‏وأيمـا امــرأة مـاتت وزوجـها عليها راض دخـلت الجـنة‏)‏، واذا كانت الأم تريد التفريق بينها وبين زوجها فهي /من جنس هاروت وماروت، لا طاعة لها في ذلك، ولو دعت عليها‏.‏ اللهم إلا أن يكونا مجتمعين على معصية، أو يكون أمره للبنت بمعصية اللّه والأم تأمرها بطاعة اللّه ورسوله الواجبة على كل مسلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل نوي أن يطلق زوجته إذا حاضت ولم يتلفظ بطلاق، فلما أن حاضت علم أنها طلقت بمجرد النية فقال للشهود‏:‏ آن طلقة زوجتي‏.‏ قالوا‏:‏ متى طلقتها‏؟‏ قال‏:‏ أول أمس، بناء على ظنه، فلما مضي حيضتان غير الحيضة التي ظن أنها طلقت فيها زوجها الشهود برجل آخر، ثم مكثت عنده وطلقها، ثم وفت عدتها، ثم أراد الزوج الأول ردها‏:‏ فهل هي حلال له بالنكاح الأول أم يجب عقد جديد‏؟‏ ‏.‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، أما إذا نوي أنه سيطلقها إذا حاضت، فهذا لا يقع به طلاق باتفاق العلماء، بل لابد أن يطلقها بعد ذلك، فإذا لم يطلقها بعد ذلك لم يقع طلاق‏.‏ وإذا اعتقد أن تلك النية طلاق فأقر أنه طلقها بتلك النية لم يقع بهذا الإقرار في الباطن، ولكن يؤخذ به في الحكم‏.‏ وإذا لم يقع به شيء فهي باقية على زوجيته في الباطن‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل له زوجة وأمه ما تريد الزوجة، فطلق الزوجة، ثم قال‏:‏ كل امرأة أتزوجها من هذه المدينة التي داخل السور ـ لا امرأته ولا غيرها ـ فإن راجع امرأته، أو تزوج غيرها من المدينة يكون العقد صحيحاً‏؟‏

فأجاب‏:‏

بل يتزوج إن شاء من المدينة، وإن شاء من غيرها، ويكون العقد صحيحًا‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل تخاصم مع زوجته، فأراد أن يقول‏:‏ هي طالق طلقة واحدة فسبق لسانه فقال‏:‏ ثلاثة، ولم يكن ذلك نيته، فما الحكم‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، إذا سبق لسانه بالثلاث من غير قصد وإنما قصد واحدة لم يقع به إلا واحدة، بل لو أراد أن يقول‏:‏ طاهر، فسبق لسانه بطالق لم يقع به الطلاق فيما بينه وبين اللّه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل عن امرأة داينت زوجها، ثم قالت له‏:‏ إني أخاف أنك لا توفيني‏.‏ فقال لها‏:‏ إن لم أوفيك إلى آخر شهر رمضان هذا، وإلا فأنت طالق ثلاثا، والزوج غائب في قوص، وما وكل أحداً‏:‏ فهل إذا أبرأت المرأة زوجها من الدين ومضي الشهر يقع الطلاق أم لا‏؟‏ وإذا تبرع أحد بقبض الدين‏:‏ فهل يسقط الدين ولا يقع الطلاق بمضي الشهر، أو يقع‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما إذا أبرأته فإنه لا يحنث عند كثير من الفقهاء ـ كأبي حنيفة ومحمد، وقول في مذهب أحمد وغيره ـ لوجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه بالإبراء تعذر الوفاء، فصار الإيفاء ممتنعا‏.‏ الثاني‏:‏ أن المحلوف على فعله بمنزلة المأمور بفعله، وقد علم أن العبد إنما هو مأمور بوفاء الدين ما كان ثابتا، فكذلك اليمين وعرف الناس فهذا كهذا؛ فإن الحالف إنما يقصد بهذا في العادة تبرئة ذمته وقطع مطالبة الغريم له، ووفاءه إذا كان الدين باقيا‏.‏ وكذلك إذا وفَّي الدين عنه موفٍّ، فقد برئت ذمته من الدين بغير فعله، كما يبرأ بالإبراء، وتعذر الإيفاء من جهته وحصل مقصود الغريم، فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم قضاء الدين على الغريم كقضائه حيث قال‏:‏ ‏(‏أرأيت لو كان على أبيك‏؟‏‏)‏ وفي حديث آخر ‏(‏على أمك دين فقضيتيه عنها أكان يجزئ عنه‏)‏ قالت‏:‏ نعم‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏الله أحق بالوفاء‏)‏‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل طلق زوجته الطلاق الثلاث قبل أن يدخل بها وهي بكر‏:‏ فهل له سبيل في مراجعتها‏؟‏

فأجاب‏:‏

الحمد للّه، الطلاق ثلاثا قبل الدخول وبعد الدخول سواء في ثبوت التحريم بذلك عند الأئمة الأربعة‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل عقد العقد على أنها تكون بالغا ولم يدخل بها ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثًا، ثم عقد عليها شخص آخر ولم يدخل بها ولم يصبها، ثم طلقها ثلاثا‏:‏ فهل يجوز للذي طلقها أولاً أن يتزوج بها‏؟‏

فأجاب‏:‏

اذا طلقها قبل الدخول فهو كما لو طلقها بعد الدخول عند الأئمة الأربعة، لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره ويدخل بها، فإذا طلقها قبل الدخول لم تحل للأول‏.‏

/ وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل قال‏:‏ كل شيء أملكه على حرام فهل تحرم امرأته وأمته عليه، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما غير الزوجة فعليه كفارة يمين‏.‏ وأما الزوجة فللعلماء فيها نزاع‏.‏ هل تطلق، أو تجب عليه كفارة ظهار‏؟‏ فمذهب مالك‏:‏ هو طلاق‏.‏ ومذهب أبي حنيفة والشافعي ـ في أظهر قوليه ـ‏:‏ عليه كفارة يمين‏.‏ ومذهب أحمد عليه كفارة ظهار، إلا أن ينوي غير ذلك ففيه نزاع، والصحيح أنه لا يقع به طلاق‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه ـ عن رجل خاصم زوجته وضربها، فقالت له‏:‏ طلقني، فقال‏:‏ أنت على حرام‏:‏ فهل تحرم عليه، أم لا‏؟‏

فأجاب‏:‏

أما قوله‏:‏ أنت على حرام ففيه قولان للعلماء، قيل‏:‏ عليه كفارة الظهار إذا أمكنته من نفسها‏.‏ وقيل‏:‏ لا شيء عليه، ولا خلاف بين العلماء أنه يجب عليها أن تمكنه‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

/ وسئل شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه ـ عن رجل له زوجة، ولها أولاد وبنات منه، وتزوج غيرها، ثم إنه كتب وكالة لزوجته الجديدة، وقال‏:‏ متى رديت أم أولادي كان طلاقها بيدك ووكلها في طلاقها مدة عشرة سنين، وقد طلق التي بيدها الوكالة‏:‏ فهل تصح هذه الوكالة أم لا‏؟‏ واذا صحت‏:‏ فهل تبطل الوكالة بطلاق الموكلة أم لا‏؟‏

فأجاب ـ رحمه اللّه‏:‏

الحمد للّه، هذه المسألة قد يظن من يظن أن الوكالة بحالها، بناء على أن الزوج إذا وكل امرأته في بيع ونحوه ثم طلقها ثلاثا لم تبطل الوكالة بالتطليق، كما ذكر الفقهاء، لكن هذه ليست تلك‏.‏ والصواب في هذه الصورة المسؤول عنها أنها تبطل بالتطليق؛ لأنه هنا لم يرد أن يطلقها وقد أستناب غيره في ذلك، كما يريد أن يبيع متاعه فيوكل شخصًا، وإنما المراد تمكينها هي من الطلاق ليكون أمرها بيد هذه الزوجة، فإن شاءت طلقت وإن شاءت لم تطلقها، وهو قد اشترط لها أن يكون أمر هذه بيدها؛ لئلا تبقي زوجته إلا برضاها‏.‏ فالمقصود أني لا أتزوجها إلا برضاك، ومعني ذلك أني لا أجمع بينك وبينها، لما تكره المرأة من الضرة، فيكون هذا من موانع ما يستحقه بالعقد من القسم ونحوه، فإذا طلقها ثلاثاً لم يبق لها عليه حق قسم /ولا نحوه، فلا تزاحمها تلك في الحقوق، ولا تكون ضرة لها، ولا يعتبر رضاها في تزوجه بتلك‏.‏

فإن الرجل ـ في العادة ـ إنما يقصد إرضاء المرأة بترك زوجته عليها إذا كانت زوجته، فأما بعد البينونة فلا يقصد إرضاءها، فكيف وهو قد طلقها ثلاثا، وهذا غاية إسخاطها، فمن أسخطها بذلك كيف يقصد إرضاءها بما هو دونه‏؟‏ ‏!‏ وبهذا ونحوه يعلم من عادة الناس أن هذا إنما جعل أمرها بيدها مادامت هذه الممكنة زوجة، فإذا صارت أجنبية لم يكن بيدها شيء من أمر تلك‏.‏ وهذا كله إذا جعل هذا الشرط لازما، فإذا لم يجعل شرطا لازما فيكون كما لو قال لها ابتداء‏:‏ أمرك بيدك‏.‏ أو‏:‏ أمر فلانة بيدك‏.‏ وهذا له الرجوع فيه‏.‏

وأما صورة السؤال فيه أنه مشروط في العقد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج‏)‏، أخرجاه في الصحيحين؛ ولهذا كان مذهب طوائف من السلف والخلف، وعمرو بن العاص، وحماد بن زيد، وطاووس، والأوزاعي، وأحمد ابن حنبل، وغيرهم‏:‏ إذا اشترط لها ألا يتزوج عليها كان الشرط صحيحا‏.‏ وإذا تزوج كان لها الخيار، وهذا أبلغ من كونه يشترط لها أنه إذا تزوج فأمر الزوجة بيدها، ومقصودها واحد، وفي كلا الموضعين إنما يكون لها الخيار مادامت زوجة‏.‏

/وأما مذهب أبي حنيفة والشافعي فعندهما هذا الشرط باطل لا يلزم‏.‏ وإذا كان كذلك كان هذا كما لو فعله بغير شرط‏.‏ والوكالة عقد جائز باتفاق العلماء فله أن يفسخ عقد الوكالة‏.‏ وإذا تنازع العلماء فيما إذا قال لزوجته‏:‏ أمرك بيدك فقال الشافعي، وأحمد وغيرهما‏:‏ هو كالتوكيل‏.‏ وله أن يرجع فيه قبل أن تختار‏.‏ وقال أبو حنيفة، ومالك‏:‏ إنه كالتمليك‏.‏ فليس له أن يخرجه عن يدها ولكن هذه الصورة وقعت على مذهب مالك وأحمد وغيرهما لمن يري أن له أن يشترط في العقد لها ما تملك به الطلاق إذا تزوج عليها‏.‏ ولا ريب أنها لا تملك ذلك إلا إذا كان نكاحها باقيًا‏.‏ فإذا أبانها لم يكن لها في الشرط حق‏.‏ واللّه أعلم‏.‏

 وسئل ـ رحمه اللّه تعالى عن رجل جري بينه وبين زوجته كلام، وكان على عزم السفر، فقال لوكيله‏:‏ إن كانت ترضي بهذه النفقة العادة فسلم إليها النفقة، وإن لم ترض بالنفقة فسلم إليها كتابها، وإن الوكيل بعد ما سافر الموكل سلم إليها كتابها وطلق عليها طلقة رجعية، وسير علم الموكل أنه قد طلقها طلقة رجعية، فلما علم الموكل، ماهان عليه، فأشهد على نفسه أنه راجعها، وسير طلبها، فلما سمع الوكيل أنه راجع زوجته ذكر أنه طلق عليه ثلاثا‏:‏ فهل يجوز للرجل المراجعة لزوجته بعد قول الوكيل ذلك‏؟‏

/فأجاب‏:‏

الحمد للّه، قوله‏:‏ يسلم إليها كتابها، كناية عن الطلاق، فإذا قال الموكل‏:‏ إنه أراد به الطلاق، أو علم بذلك بدلالة الحال، ملك أن يطلق واحدة ولم يملك الوكيل أن يطلق ثلاثا إلا باذن الموكل‏.‏ وإذا قال للوكيل لم أرد بذلك أنه يطلقها ثلاثا قبل قوله، ولم يمكن الوكيل أن يطلقها ثلاثا، وإذا طلقها الوكيل واحدة ثم راجعها الزوج صحت الرجعة‏.‏

/ باب الحلف بالطلاق وغير ذلك

 سئل شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه ـ عن يمين الغموس في الحلف بالطلاق، وعن رجل قال لزوجته‏:‏ لا يدخل أهلك بيتي فصعب عليه، فحلف بالطلاق الثلاث أنه ما قاله، ويعلم أنه قاله‏؟‏

فأجاب‏:‏

الأيمان التي يحلف بها الناس نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ أيمان المسلمين‏.‏ والثاني‏:‏ أيمان المشركين، فالقسم الثاني الحلف بالمخلوقات ـ كالحلف بالكعبة، والملائكة والمشائخ، والملوك، والآباء، والسيف، وغير ذلك ـ مما يحلف بها كثير من الناس‏.‏ فهذه الأيمان لا حرمة لها، بل هي غير منعقدة ولا كفارة على من حنث فيها باتفاق المسلمين، بل من حلف بها فينبغي أن يوحد اللّه تعالى ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من حلف فقال في حلفه واللات والعزي، فليقل‏:‏ لا إله الا اللّه‏)‏‏.‏ وثبت عنه في الصحيح أنه قال ‏(‏من حلف فليحلف باللّه، أو ليصمت‏)‏ وفي السنن عنه‏.‏ ‏(‏من حلف بغير اللّه فقد أشرك‏)‏ رواه الترمذي، وصححه‏.‏ فهذه الأيمان باتفاق الأئمة /وأكثرهم على أن النبي نهي عنها، بل قد روي عن ابن مسعود وابن عباس وغيرهما أنه قال‏:‏ لأن أحلف باللّه كاذبا أحب إلى أن أحلف بغيره صادقا‏.‏ قال‏:‏ وهذا لأن الحلف بغير اللّه شرك، والشرك أعظم من الكذب‏.‏

والنذر للمخلوقات أعظم من الحلف بها، فمن نذر لمخلوق لم ينعقد نذره ولا وفاء عليه باتفاق العلماء، مثل من ينذر لميت من الأنبياء والمشائخ وغيرهم كمن ينذر للشيخ جاكير‏.‏ وأبي الوفاء، أو المنتظر، أو الست نفيسة أو للشيخ رسلان، أو غير هؤلاء، وكذلك من نذر لغير هؤلاء زيتا أو شمعا، أو ستوراً، أو نقداً، ذهباً أو دراهم، أو غير ذلك، فكل هذه النذور محرمة باتفاق المسلمين، ولا يجب، بل ولا يجوز الوفاء بها باتفاق المسلمين وإنما يوفي بالنذر إذا كان للّه عز وجل، وكان طاعة؛ فإن النذر لا يجوز إلا إذا كان عبادة، ولا يجوز أن يعبد اللّه إلا بما شرع‏.‏ فمن نذر لغير اللّه فهو مشرك أعظم من شرك الحلف بغير اللّه، وهو كالسجود لغير اللّه‏.‏

ولو نذر ما ليس عبادة ـ كما لو نذرت المرأة صوم أيام الحيض ـ لم يلزم ذلك‏.‏ ولا يجوز صيام أيام الحيض باتفاق المسلمين، كما في الصحيح عن عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه‏)‏، ولو نذر أن يسافر إلى قبر نبي من الأنبياء، أو شيخ من المشائخ، أو مشهده، أو مقامه، أو مسجد غير المساجد الثلاثة لم يكن عليه أن يوفي بنذره باتفاق الأئمة‏.‏

/وكذلك من نذر صلاة، أو صوما، أو صدقة، أو اعتكافا، أو أضحية أو هديا، أو نذر أن يسافر إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أو المقدس، ففيه قولان للعلماء، وهما قولان للشافعي‏:‏

أحدهما‏:‏ ليس عليه أن يوفي به، وهو مذهب أبي حنيفة‏.‏ ومن أصله أنه لا يجب بالنذر إلا ما كان من جنسه واجب بالشرع‏:‏ كالصلاة والصيام والاعتكاف‏:‏ فيجب بالنذر، لأن الصوم واجب عنده، وعند أحمد في إحدى الروايتين، وعند مالك؛ فلهذا وجب عنده‏.‏ وإتيان المسجد ليس واجباً بالشرع فلا يجب عنده بالنذر‏.‏

والقول الثاني‏:‏ يجب الوفاء إذا نذر إتيان المسجدين، وهو مذهب مالك وأحمد؛ لأن ذلك طاعة للّه‏.‏ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من نذر أن يطيع الله فليطعه‏)‏، هذا إن كان قصد أن يسافر للمسجد للصلاة فيه وللاعتكاف ونحو ذلك‏.‏

وأما إذا كان قصده نفس زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا للعبادة في مسجده لم يف بهذا النذر، نص عليه مالك وغيره من العلماء وليس بين الأئمة في ذلك نزاع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد‏:‏ المسجد الحرام، والمسجد الأقصي، ومسجدي هذا‏)‏‏.‏ أخرجاه في الصحيحين‏.‏

/فمن نذر سفراً إلى بقعة ليعظمها غير هذه الثلاثة كالسفر إلى الطور الذي كلم اللّه عليه موسى بن عمران، أو غار حراء الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث فيه، أو غار ثور الذي قال اللّه تعالىفيه‏:‏ ‏{‏ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏40‏]‏، لم يف بهذا النذر باتفاق الأئمة، فكيف بما سوي ذلك من الغيران والكهوف‏؟‏ وكذلك لو نذر السفر إلى قبر الخليل عليه السلام، أو قبر أبي بريد، أو قبر أحمد بن حنبل، أو قبور أهل البقيع؛ فإن زيارة القبور مشروعة لمن كان قريبا منها، وكان مقصوده الدعاء للميت‏.‏ فأما السفر إليها فمنهي عنه‏.‏

وأما الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم، فجمهور العلماء على أنه ـ أيضا ـ منهي عنه ولا تنعقد به اليمين، ولا كفارة فيه‏.‏ هذا قول مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد في إحدى الروايتين عنه، وعنه تنعقد به اليمين‏.‏